رحلة عبر العصور من زكابار الرومانية إلى منارة العلم والجهاد
"مدينة قديمة، مجهزة بطواحين مائية تديرها مجاريها المائية وتمتلك عدداً كبيراً من قنوات الري"
- ابن حوقل، القرن العاشر الميلادي
كانت مليانة في العهد الروماني تُعرف باسم "زكابار" أو "سوكابار"، وهي مستعمرة رومانية مهمة تحت حكم الإمبراطور أغسطس. اشتهرت المدينة بموقعها الاستراتيجي على سفوح جبل زكار، وكانت مركزاً تجارياً وعسكرياً هاماً. في عام 375م، احتلها القائد الروماني ثيودوسيوس لقمع ثورة الزعيم البربري فيرموس.
أسس الأمير الزيري يوسف بلكين بن زيري مدينة مليانة الإسلامية على أنقاض المدينة الرومانية القديمة. ذكرها المؤرخ ابن حوقل في القرن العاشر، وأثنى على نظامها المائي المتطور. شهدت المدينة نهضة علمية وثقافية كبيرة، وأصبحت مركزاً للعلماء والفقهاء.
عاشت مليانة عصرها الذهبي كحاضرة علمية، حيث تخرج منها علماء أفذاذ مثل أحمد بن عثمان الملياني (القرن 13م) الكاتب والشاعر، وعلي بن مكي الملياني (القرن 14م) الفقيه والأصولي. وصفها ابن خلدون بأنها "جزء من نطاق بني ورسيفن المغراوية في سهل الشلف".
ولد أبو العباس أحمد بن يوسف الراشدي الملياني في قلعة بني راشد بالقرب من معسكر عام 1435م. درس على يد الشيخ أحمد زروق البرنوسي واختص بالطريقة الشاذلية. كان له أكثر من 80 ألف مريد وتلميذ. لعب دوراً سياسياً وجهادياً هاماً، ودعم الأتراك العثمانيين ضد الإسبان والزيانيين. توفي عام 1524م ودُفن في مليانة حيث أصبح ولي المدينة وشفيعها.
في عام 1517م، أصبحت مليانة أول قائدية (قيادة) في منطقة الجزائر العاصمة. أنشأ الأتراك حامية عسكرية مهمة في المدينة بسبب موقعها الاستراتيجي. في عام 1774م، بنى محمد الكبير باي وهران مسجد سيدي أحمد بن يوسف الشهير، الذي أصبح معلماً تاريخياً وروحياً للمدينة.
كانت مليانة قاعدة هامة للأمير عبد القادر في مقاومته للاحتلال الفرنسي. عندما أحاطت القوات الفرنسية بالمدينة عام 1840م، أمر الأمير بحرقها حتى لا يستفيد منها العدو. القصر الذي كان يقيم فيه الأمير تحول لاحقاً إلى متحف يحوي آثاراً من العصور الرومانية والإسلامية وفترة المقاومة الوطنية.
احتلت فرنسا مليانة عام 1842م، وأعادت بناءها على الطراز الاستعماري. أصبحت بلدية كاملة عام 1849م. خلال هذه الفترة، هُمّشت المدينة لصالح خميس مليانة المجاورة. في عام 1957م، شهدت المدينة معركة واد قرقور بين المجاهدين والجيش الفرنسي. رغم الاحتلال، حافظت المدينة على هويتها وتراثها الإسلامي.
بعد الاستقلال، بدأت مليانة تستعيد مكانتها كمدينة تاريخية وثقافية. تم الحفاظ على معالمها التاريخية، وفي عام 2025م، تم تسجيل المدينة رسمياً في سجل التراث العربي من قبل الألكسو، تقديراً لتراثها الحضاري العريق. اليوم، تشهد المدينة نهضة علمية جديدة من خلال مشروع "حاضرة مليانة" لإحياء التعليم الأصيل.
بُني عام 1774م بأمر من محمد الكبير باي وهران، وهو من أهم المعالم الدينية والتاريخية في المدينة. يتميز بهندسته المعمارية المغربية-الأندلسية، وباب المقصورة المزخرف بالطراز الموحدي من القرن 14م. يُقام في المسجد الحج السنوي "ركب بني فرح" الذي يجذب آلاف الزوار من مختلف مناطق الجزائر.
كانت جزءاً من جامع الأتراك أو جامع البطحاء، وتم تحويلها إلى برج ساعة عام 1844م بعد هدم المسجد لبناء ساحة عامة. تقف المئذنة اليوم شاهدة على التاريخ العثماني للمدينة وتُعتبر رمزاً لصمود الهوية الإسلامية رغم التحديات.
تحيط بمليانة أسوار بُنيت على أساسات بربرية وتركية قديمة، وتعكس الطبقات المتعاقبة من التاريخ. تنقسم المدينة القديمة إلى الحي الإسلامي والحي الفرنسي، كلاهما محاط بهذه الأسوار التي تشهد على العصور المختلفة.
تشتهر مليانة باحتفالات المولد النبوي التي تتميز بصناعة "المنارات" - نماذج خشبية وقصبية على شكل مساجد وأبراج وسفن. كما تحتفل المدينة سنوياً بمهرجان الكرز في نهاية يونيو، ومهرجان الموسيقى الأندلسية الذي يجمع مدارس الصنعة والغرناطي والمالوف.
أنجبت مليانة كوكبة من العلماء عبر العصور، ومن أشهر شهدائها: محمد بوراس مؤسس الكشافة الإسلامية الجزائرية (1941م)، السي علال بن عبد القادر من أوائل المقاومين، العقيد بوجلال عبد القادر، والسي صالح (محمد زموم) قائد ولاية 4 أثناء الثورة. كما اشتهرت المدينة بعلي لابوانت (علي عمار) بطل معركة الجزائر.
كانت مليانة عبر تاريخها مركزاً علمياً مشهوداً، حيث ضمت العديد من المدارس القرآنية والزوايا ومجالس العلم. اشتهرت بتدريس الفقه المالكي، والتصوف السني، والعلوم اللغوية والشرعية. هذا التراث العلمي العريق هو ما يسعى مشروع "حاضرة مليانة" لإحيائه اليوم.
"مليانة... جوهرة الجزائر الخالدة التي حُفظت في سجل التراث العربي - شهادة على الصمود والثراء الثقافي والرابطة المستمرة مع الماضي التي تواصل إضاءة الطريق نحو المستقبل"
- د. هناء سعادة، عند تسجيل مليانة في التراث العربي 2025م